وجبة تمنحك أكثر من الشبع.. لماذا أصبح طعامنا أكثر تعقيدا من أي وقت مضى؟
تاريخ النشر : 04-05-2023 13,3,12
"لا نبالغ إذا قلنا إن هناك أزمات متعاقبة عاشتها الأجيال الحديثة في كل العالم أثَّرت في طريقة استهلاكنا للطعام، وفي علاقتنا به، بحيث يمكن تمييز عادات غذائية لدى جيل الألفية (مواليد عقد الثمانينيات) وجيل زد (مواليد ما بعد منتصف عقد التسعينيات وحتى عام 2010) لم تشهدها الأجيال السابقة. لم يعد الطعام وسيلة لإشباع الجوع فقط أو الحصول على جسم صحي، لكنه أصبح بالإضافة إلى ذلك تجربة حسية وثقافية ثرية نسعى دائما لجعلها أكثر تأثيرا وحضورا، فكيف نتعامل اليوم مع طعامنا؟

ما تغير في علاقتنا بالطعام
خلال نصف قرن مضى، حدثت تغيرات ملحوظة في اتجاهات الاستهلاك في جميع أنحاء العالم، وتحولات كبيرة في الأنماط الغذائية، فاتجه المستهلكون إلى أنظمة غذائية أكثر تنوعا، ودخلت السكريات والدهون المشبعة بوصفها جزءا أساسيا فيها، ما أحدث عواقب صحية وخيمة حصدها السكان الأكبر عمرا، فانتشرت أمراض القلب والأوعية الدموية والسرطان، وهو ما دفعنا للبحث عن خيارات غذاء صحية أكثر من ذي قبل، منها على سبيل المثال الميل إلى تناول الأغذية النباتية بشكل أوضح من ذي قبل.

هكذا نما الوعي بأهمية الغذاء الصحي وبمعرفة مصادر ما نأكله، فطوَّرت شركات الأغذية طريقتها في عرض المحتويات من خلال ملصقات أكثر تفصيلا للتعريف بالمنتج، ودخلت مصطلحات مثل "عضوي" أو "خالٍ من الجلوتين" إلى قائمة ما نبحث عنه في المتاجر، تبع ذلك اهتمام بالتصميم والملمس والقوام، وهنا يبرز متغير مهم آخر، كانت الشركات تقود العرض ويمتثل المستهلكون بالطلب من قبل، فيما قادت أجيال الألفية وجيل زد عملية التغير الثقافي والتجاري لتلاحقها الشركات وتكيف منتجاتها مع الطلب.

بينما كانت تقارير الشركات والأبحاث العلمية تتبع هذا التغير، حدثت نقلة كبيرة أخرى؛ غيرت جائحة "كوفيد-19" شكل علاقتنا بالطعام جذريا، ليس فقط بشأن ما نأكله وميلنا لتناول طعام صحي يدعم صحة أجسامنا ومناعتها، لكنها غيرت أيضا الطريقة التي نأكل بها. (4)

نميل اليوم أكثر من ذي قبل إلى أن نوظف الطعام جيدا في حياتنا، نعرف ما يطلق عليه "الأكل الواعي"، فنعمل على تغذية أجسامنا بما تحتاج إليه، ونفرق بين الإشارات التي ترسلها؛ ما يتعلق منها بالجوع فعلا، وما يرتبط باحتياجات عاطفية، وللسبب ذاته تجذبنا ملصقات المنتجات الغذائية والمشروبات التي تتضمن كلمة "طبيعية" أو "عضوية". (5)

كان الأكل الواعي إحدى الطرق التي اتبعها البعض إذن، وبحث آخرون عن عادات أخرى يمكنهم التأقلم معها، كان "الأكل النظيف" طريقة أخرى للبعض، ويعني التركيز على كل ما يدخل أجسامنا ليكون طبيعيا غير مصنع، مع الاهتمام باللياقة البدنية، تزايد البحث عن الغذاء الأكثر فائدة، فيما عُرف بـ"الأغذية الفائقة" (Superfood) مثل بذور الشيا أو مسحوق البروتين. (6)

صار بإمكان كلٍّ منا أن يوفر على مائدته فاكهة وخضراوات من كل حدب وصوب، لتدخل منتجات مثل الأفوكادو والتوت البري إلى قوائم غذائنا، ليس فقط لأنها أصبحت أكثر توفرا، لكن لأن الناس أصبحوا أكثر استعدادا لإنفاق نسبة أكبر من دخولهم على الغذاء.

ورغم ذلك، ليس كل التغيرات التي حدثت لنا صحية أو إيجابية، فقد انعكس هوسنا المتزايد بالتقاط الصور على طعامنا أيضا، فصرنا نبحث ليس فقط عن الطعام الجيد والصحي أو حتى الطعام طيب المذاق، ولكن أيضا عن تقديمه بشكل جيد يُشبع كل الحواس ويزيد متعة تجربة الطعام، ويكون صالحا للنشر عبر مواقع التواصل، والمشاركة مع الأصدقاء. (7)

يزخر تطبيق إنستغرام اليوم بما يقارب 500 مليون صورة تحمل وسم طعام أو "FOOD"، صور الأطعمة الغنية بالسعرات الحرارية هذه تزيد إفراز الدوبامين وتحفز مراكز المتعة في الدماغ، وتدفع منتجي الأغذية والمطاعم ومصممي الإعلانات للتسابق في تقديم طعام يجذب عملاء يشاهدون آلاف الصور لأطباق مميزة كل يوم، ويرقى إلى توقعاتهم العالية.(8)

أصبح التقاط صورة للوجبة فور تقديمها وقبل تذوقها شائعا في المطاعم، نفكر غالبا في الصورة قبل أن نفكر في المذاق، أصبحت الصورة جزءا من تجربة تناول الطعام، إنه اتجاه يُطلق عليه "إباحية الطعام" (gastroporno) أو (foodporn)، يروج له المؤثرون في شبكات التواصل وتُعنى به المطاعم، لكن ماذا عن تأثيره؟

تناولت دراسة نشرتها مجلة "براين آند كوجنيشن" (Brain and Cognition) عام 2016 فكرة الجوع البصري التي تدفعنا إلى مشاهدة صور الطعام، وما يصحب ذلك من تغير، نعيش اليوم في بيئات تتوفر فيها الموارد الغذائية أكثر من أي وقت مضى، وإحدى العلامات المميزة لتلك الوفرة هو انتشار مرض السمنة، وبينما كانت التهمة ملقاة على عاتق شركات الأغذية وحدها، فإن بوسعنا اليوم الحديث عن عامل آخر هو الإشارات التي تسبب الجوع.

تلعب صور الأطعمة الشهية أو ما يطلق عليه "المواد الإباحية للطعام" (Gastroporn) دورا كبيرا في إثارة الرغبة في تناول الطعام بشكل لم نعتده، إنه الجوع البصري، صور الطعام المحيطة بنا وسهولة الوصول إليها تؤثر في النشاط العصبي والاستجابات الفسيولوجية والنفسية.

تتغير العادات الغذائية بشكل متسارع إذن، بعض هذه التغييرات يبدو إيجابيا مثل الاهتمام الزائد بالطعام الصحي وتزايد الوعي بالارتباط الواضح بين الطعام والصحة العامة، وبعضها الآخر ربما يكون سلبيا حيث يدفع الارتباط المتزايد بعالم الصور نحو أنماط غير صحية من الغذاء، لكن المؤكد أننا نشهد ثورة حقيقية لا تدور فقط حول طبيعة طعامنا ولكنها تشمل أيضا طريقة تناول هذا الطعام والدور الذي يلعبه في حياتنا، وأن هذه الثورة سيكون لها تأثير لا يمكن تجاهله على مستقبلنا.

   

اخر الاخبار