السبت 04 أيار 2024 الموافق 25 شوال 1445
آخر الأخبار

'طوفان الأقصى'.. والهجرة العكسية.. بقلم د. مهدي عقيل

ياصور
عند كل تهديد لأمن "إسرائيل"، سواء كان على شاكلة حرب أو انتفاضة أو أزمة داخلية في الكيان، يدق ناقوس خطر الهجرة المعاكسة، بحيث يُضرب عمق العقيدة الصهيونية التي تقوم على عنصر الإحلال والاستقرار وتشجيع الهجرة المكثفة إلى "أرض الميعاد"، والذي كان هاجس الوكالة اليهودية منذ تأسيسها عام 1922.
 
وفي السنوات الأخيرة شهدت إسرائيل عدة حروب كانت سبباً رئيساً في رفع معدلات الهجرة اليهودية المعاكسة، ولا شك أن عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها كتائب "القسّام" – الجناح العسكري لحركة "حماس"، في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، سوف يكون لها أثر كبير جدًّا على دفع اليهود إلى المغادرة دون رجعة بعد أن فقدوا عنصر الأمان، لا سيما الذين كانوا يقطنون مدن وبلدات غلاف غزة، حيث نزح منها قرابة 500 ألف إلى داخل إسرائيل.

لم يتعود الإسرائيليون على النزوح أو التهجير، حيث كان هذا مصطلحاً لصيقاً بالفلسطينيين والعرب في الأماكن التي تطالها الاعتداءات الإسرائيلية، لكن بعد "الطوفان" بات الإسرائيليون ينزحون أيضاً. وبالتالي، هؤلاء النازحون صار من الصعوبة بمكان إقناعهم بالعودة إلى "مناطقهم"، خصوصاً إذا ما فشل الهجوم البري على غزة، وهذا هو الأرجح، مع العلم أن رحيل المهاجرين اليهود من إسرائيل ليس ظاهرة جديدة، ولكنه أصبح لافتًا في السنوات الأخيرة ويعرف باسم "يورديم"، وهو مصطلح عبري يستخدم لوصف اليهود الذين يغادرون إسرائيل.

منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية بالتزامن مع الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، بدأت ظاهرة هجرة اليهود المعاكسة موضع اهتمام أكثر لدى الباحثين المهتمين برصد التطور الديمغرافي في الدولة العبرية، بحيث راحت أرقام المغادرين من إسرائيل تزيد عن أرقام المهاجرين إليها. خصوصا عام 2015 بعد مرور سنة على عملية "الجرف الصامد" الإسرائيلية على غزة، والتي أسمتها كتائب "القسّام" بمعركة "العصف المأكول"، وأتت التسمية مناسبة تماماً لنتيجة المعركة، بحيث صمدت "حماس" 51 يوماً ولم تستطع إسرائيل الدخول إلى غزة، إذ بدا جيشها فعلاً كالعصف المأكول (العصف هو ما تنقله الرياح من ورق الزرع الذي يبقى في الأرض بعد عملية الحصاد، ويكون طعاماً للمواشي، أو باختصار التبن)، ولم نشهد أيًّا من الجرف أو الصمود من قبل جيش العدو وفقاً للتسمية الإسرائيلية.

لقد سبق لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، أن قالت إن عدد اليهود الذين غادروا إسرائيل عام 2015 فاق عدد الذين عادوا إليها. وذكرت أن قرابة 16700 إسرائيلي غادروا عام 2015، للعيش خارجها لفترة طويلة، عاد منهم 8500 فقط، بعد العيش في الخارج لمدة عام على الأقل،
مع العلم أن إسرائيل تتعامل مع أرقام الهجرة المعاكسة بوصفها قضية تمس أمنها القومي، فتتكتم على الأرقام الحقيقية، ذلك أن أي دراسة تشير إلى تفوق الهجرة المعاكسة ستترك أثراً سلبيًّا كبيراً على الجمهور الإسرائيلي خصوصاً أن معظم الذين هاجروا إلى دولة الاحتلال لم يستغنوا عن جنسياتهم الأصلية، وكان قدومهم إلى إسرائيل، بطبيعة الحال، لتحسين ظروفهم المعيشية والاقتصادية، وليس لديهم ارتباط بالأرض أو الهوية الإسرائيلية التي طالما اشتغلت عليها الجمعيات الصهيونية، بدءًا من "الأب الروحي للدولة اليهودية" تيودور هرتزل الذي لخص أفكاره في كتاب أصدره عام 1896 وحمل عنوان "الدولة اليهودية"، ورسم عبره خارطة طريق لتشجيع تهجير اليهود إلى فلسطين سعياً خلف فكرة إقامة الدولة اليهودية.

فموضوع هجرة اليهود إلى فلسطين هو أساس كل شيء في الكيان الوليد، وحسب تعبير ديفيد بن غوريون، فإن انتصار إسرائيل النهائي "سيتحقق عن طريق الهجرة المكثفة" إليها.
 
إلا أنه في السنوات الأخيرة، وبعد فقدان إسرائيل لكثير من عناصر الجذب لاستجلاب اليهود من مختلف أقطار العالم للاستيطان في فلسطين المحتلة، باتت مهمة الوكالات اليهودية المختصة بهذا المجال صعبة ومُعقدة. والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة والمؤسسات الإسرائيلية لم تستطع جذب أكثر من 41 % من إجمالي يهود العالم إلى فلسطين المحتلة. هذا عدا عن أن عدد اليهود في العالم يتراجع بسبب عوامل عديدة أبرزها الزواج المختلط من أديان أخرى (بحسب الديانة اليهودية، فإن اليهودي هو فقط من أمه يهودية).
 
ولحل جزء من هذه المعضلة، قامت السلطات الإسرائيلية بتعديل "قانون العودة" ليشمل الحق بالهجرة أيضاً لكل ولد وكل حفيد، وليس فقط للمولود لأم يهودية بغرض توسيع دائرة استيعاب المهاجرين، وإن أخلّ ذلك في الحفاظ على العرق اليهودي، وسمحت باستقدام عدد كبير من أصول يهودية لكنهم لا يدينون بالديانة اليهودية، برغم معارضة الحاخامات وطائفة الحريديم لهذا الإجراء.
 
لكن بصرف النظر عن عدد اليهود المستهدف تهجيرهم إلى فلسطين، المشكلة الكبرى تكمن في إمكانية توفير مناخ آمن للعيش والبقاء لليهودي القادم إلى فلسطين، فالأمن داخل الكيان بات في حالة لا تُطمئن اليهود للسكن فيه، سواء في الأطراف وحتى في الداخل، وغالباً ما كانوا يُغرون يهود أوروبا الغربية بالإقامة في تل أبيب وغيرها من المدن والبلدات البعيدة عن المواجهات مع المقاومة الفلسطينية أو المقاومة اللبنانية، لكن بعد أن باتت صواريخ المقاومة تغطي كامل الأراضي الفلسطينية تقريباً لم يعد هناك مناطق آمنة ومناطق غير آمنة. مع العلم أن الأطراف كانت تُخصص لليهود الآتين من الدول الفقيرة (أوروبا الشرقية وأفريقيا وغيرها). حيث أن التمييز في إسرائيل يبدأ من لحظة وصول اليهودي إلى فلسطين المحتلة، إذ يتم فرزهم بين إشكنازي (غربي) وسفارديم (شرقي). ناهيك عن حالة التمييز العنصري والاضطهاد ليهود الفلاشا (الإثيوبيين).
 
والبحبوحة التي كان ينعم فيها الكيان العبري لم تعد متوفرة، والتي كانت تتيح له تأمين حياة رغيدة ورفاه للقادم إليه. كذلك التقديمات السخية والمُغرية لم تعد موجدة أيضاً.
 
هذا من حيث الأمن والاقتصاد، وأضيف إليهما مؤخراً سيطرة اليمين المتطرف بطروحاته الجديدة، لا سيما لناحية الإصلاحات القضائية التي تبنّتها حكومة هذا اليمين، والتي تقضي بتقليص صلاحيات المحكمة العليا لصالح الحكومة، وهذا ما أشعر اليهود الليبراليين بأن "إسرائيل الواحة الديموقراطية في محيط عربي غير ديموقراطي" التي وعدوا بها باتت بخبر كان، وهي قيد التحول إلى دولة دكتاتورية أو سلطوية بأفضل الحالات.
 
ووفقا لنتائج استطلاع للرأي أجرته الإذاعة الإسرائيلية الرسمية "كان"، فإن أكثر من 25% من اليهود البالغين (فوق 18 عاماً)، يفكرون بالهجرة من إسرائيل تفكيراً جدّيًّا، في حين شرع 6% بإجراءات عملية للهجرة، وذلك بسبب تغلغل نفوذ الأحزاب الحريدية والتيار اليميني الديني لمفاصل الحكم، والإصلاحات بالجهاز القضائي التي يراها بعضٌ ممّن شملهم الاستطلاع "انقلاباً على الديمقراطية ونظام الحكم.
 
هذه الأرقام المذكورة وغيرها، تُقلق الجهات المختصة في إسرائيل، لا سيما في ظل الواقع المُعاش اليوم في الكيان ومستقبله المجهول بعد "طوفان الأقصى"، حيث بدأت مظاهر نمو الهجرة العكسية المتوقعة، والتي تعتبر جزءًا رئيسًا من التهديد الوجودي للكيان، حيث هناك رابط عضوي بين زوال الأخير والهجرة المذكورة، وسوف يكون ذلك موضوع الجزء الثاني من مقالتي.
تم نسخ الرابط