السبت 04 أيار 2024 الموافق 25 شوال 1445
آخر الأخبار

'طوفان' الهجرة المعاكسة.. بدأت أولى إرهاصاته! بقلم د. مهدي عقيل

ياصور
الجزء الثاني من مقال أمس

كما أشرنا في المقال السابق، عند كل حربٍ أو انتفاضة أو مشكلة داخلية تنشط الهجرة المعاكسة، لكن المسألة مع "طوفان الأقصى" مختلفة كثيراً، والتي شكّلت عمليّة كيّ وعيّ جَمْعِي للمستوطنين، إذ أن ما حصل ليس بمقدور معدة الإسرائيليين هضمه، من كمْ القتلة التي تكبّدها العدو، إلى سهولة اجتياز "كتائب القسّام" للسور الخرساني بعمق ثمانية أمتار وارتفاع مماثل، مُجهز بأحدث أجهزة الإنذار والمراقبة والاستشعار، وصولاً إلى اختطاف المئات من العسكر والمدنيين.
 
لم نذهب بالتاريخ بعيداً، فبعد معركة "سيف القدس"، في أيار 2021، وفي دراسة أعدّتها ونشرتْها وزارة الاستيعاب الإسرائيلية، تَبيَّن أن ثلث اليهود في "إسرائيل" باتوا يؤيّدون فكرة الهجرة، وخصوصاً الشباب المتعلم منهم، إذ تعاني "إسرائيل" من هجرة الأدمغة إلى أوروبا وكندا والولايات المتحدة الأميركية.
 
وبطبيعة الحال، هذه النسبة قد ارتفعت كثيراً بعد معركة "وحدة الساحات" عام 2022، وموجات الاعتراض على سياسة حكومة اليمين المتطرف، لا سيما لجهة المسّ بصلاحيات المحكمة الدستورية. لكن ما أنقذ "إسرائيل" من حصول خلل كبير بين عدد المهاجرين إلى "إسرائيل" وعدد المغادرين منها هي الحرب الأوكرانية التي دفعت بآلاف اليهود الأوكران والروس على السواء للهجرة إلى فلسطين المحتلة.

وقد أظهرت البيانات أنه تمّ خلال العام 2022 استقدام 70 ألف يهودي إلى فلسطين التاريخية، غالبيتهم العظمى من روسيا وأوكرانيا، وهي النسبة الأعلى من المهاجرين منذ الانتفاضة الثانية عام 2000، علماً أنه في العام 2021 تم استقدام نحو 28 ألف مهاجر فقط.

وتشير إحصائيات إلى نحو 1800 يهودي روسي من أصل 5600 ممن استفادوا من "قانون العودة" الإسرائيلي قد رجعوا إلى روسيا بجوازات سفرهم الإسرائيلية بعد فترة قصيرة من اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
 
فثمة ملاحظة مهمّة هنا، أن سلوك المهاجرين الروس إلى "إسرائيل"، لا تطمئن إليّه الوكالات الإسرائيلية التي تعمل على استجلابهم إلى الكيان، إذ أنّهم فور ما يحصلون على جواز السفر الإسرائيلي، يرحلون إلى وجهتهم المفضلة للهجرة، لا سيما إلى الولايات المتحدة الأميركية.
 
وثمة كثافة في إقبال الإسرائيليين على طلب جواز السفر البرتغالي في الآونة الأخيرة، مُستفيدين من القانون البرتغالي الذي يعطي أيّ يهودي في العالم الجنسية البرتغالية إن طلبها، وذلك في إطار تصحيح الغبن التاريخي الذي لحق بيهود إسبانيا والبرتغال، بفعل طردهم من البلدَيْن إثر سقوط الدولة العربية في الأندلس، نهايةَ القرن الخامس عشر. وهذا ما يدلل إلى أن العرب كانوا يوفّرون حياة طبيعية لليهود بين ظهرانيهم، بعكس الأوروبيين الذين قتلوا الملايين منهم في القرن التاسع عشر واضطهدوهم، والأمر لم يقتصر على هولوكوست أدولف هتلر حسب الدعاية الغربية. كذلك أشارت تقارير إلى ارتفاع الإقبال على نيل الجنسية الفرنسية والبولندية والألمانية.

هذا كلّه قبل "الطوفان"، وليس ثمة شك أن ما بعد "الطوفان" ليس كما قبله، خصوصاّ لجهة الهجرة المعاكسة لليهود. وقد سُجّل أوّل الغيث حسب تقرير أعدته صحيفة "باركر" الإسرائيلية، والذي كشف عن أولى الإحصاءات في الأسبوع الرابع للحرب على غزة، والذي يستعرض لأول مرّة ظاهرة الهجرة من "إسرائيل" في ظل الحرب والتوتر الأمني، من خلال توثيق إفادات لعائلات اختارت الهجرة من البلاد خوفاً وهرباً من التوتر الأمني ولشعورها بعدم الأمان.

حيث أنّه غادر أكثر من 230 ألف يهودي "إسرائيل" إثر عملية "الطوفان"، ويتوقع ارتفاع أعداد المغادرين إذا ما استمرت الحرب على غزة، فضلاً عن إمكانية تصاعد التوتر على الجبهة الشمالية مع لبنان، والمواجهات المتواصلة في الضفة الغربية المحتلة.
 
وبطبيعة الحال، من المبكر جداً معرفة حجم الأثر لما حصل في 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، على الهجرة من "إسرائيل" إلى بلد آخر، والمستوطن لا يحزُم حقائبه في يوم وليلة، ويترك بلداً ربما مضت على إقامته فيه عقود أو ولد ونشأ فيه، فيحتاج الأمر أقله لسنة وربما سنتين لينهي كل ارتباطاته. هذا إذا كان من حملة جنسيّة أخرى، ويزداد الأمر صعوبةً إذا لم يكن بحوزته سوى جوار السفر الإسرائيلي.
 
نسبة الهجرة المعاكسة مؤهلة للارتفاع كثيراً، كون ما حصل في "الطوفان" لا يقاس بأي حرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين منذ نشأة الكيان عام 1948. فالتهجير القسري الذي شمل قرابة نصف مليون من غلاف غزة وما لا يقل عن مئة ألف من المنطقة الشمالية، سوف يكون له أثر كبير على هؤلاء الذين قد لا يعود السواد الأعظم منهم إلى "مناطقهم"، وقد يغادر جزء كبير منهم فلسطين المحتلة بعدما اهتزت ثقتهم بالجيش والأجهزة الأمنية الإسرائيلية، خصوصاً إذا ما فشلت السلطات الإسرائيلية في القضاء على حركة "حماس"، وبقاء وحدة "الرضوان" (قوات النخبة في حزب الله)، على الحدود الشمالية كما صرح أحد المهجّرين.

ونختم بالتفاتة مهمة، معظم اليهود الذين أُوتي بهم إلى فلسطين لم يكن لهم حقّ الخيار في البلد الذي أرادوا الهجرة إليه. إنما أجبرتهم الصهيونيّة والأنظمة الأوروبيّة أن يأتوا إلى فلسطين من أجل تحقيق ما يُسمى "الحلم الصهيوني"، والذي بقدر ما هو حلم يهودي، هو أيضاً حلم أوروبّي هدفه التخلص من اليهود وإبعادهم وحشرهم في مكان واحد اسمه فلسطين. وبالتالي اصطاد الأوروبيون من خلال تهجير اليهود عصفورين بحجر واحد: الأول، تخلصوا من اليهود. والثاني، وجدوا للكيان الذي أنشأوه لأجلهم وظيفة استراتيجية تقضي بالسيطرة على المنطقة العربية والعمل على استمرار تخلّفها، لتبقى مواردها تحت سيطرتهم وسوقاً مهماً لمنتوجاتهم.
تم نسخ الرابط