الثلاثاء 29 نيسان 2025 الموافق 01 ذو القعدة 1446
عاجل
آخر الأخبار
ياصور

التكاليف الاقتصادية للحروب غالبًا ما تكون باهظة نظرًا للأضرار البالغة التي تلحق بالبلد الذي تدور فيه. وتشمل هذه التكاليف أعباءً اقتصادية واجتماعية وبشرية، إلى جانب تأثيرات خطيرة على الصحة النفسية للسكان. ومع ذلك، لا تقتصر آثار الحروب على الدولة المتضررة مباشرة، بل تمتد أيضًا إلى الدول المجاورة التي تتحمل جزءًا من هذه التكاليف. 

في لبنان، الذي شهد أزمة مالية حادة منذ عام 2019، تزايدت الأوضاع سوءًا مع تفشي جائحة كورونا في 2020، ثم انفجار مرفأ بيروت، تلاها ارتفاع أسعار السلع نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية في 2022، مما وضع الاقتصاد اللبناني في وضع هش للغاية. 

قبل اندلاع الحرب في 7 أكتوبر، كان الاقتصاد اللبناني يعاني من اختلالات هيكلية واضحة، بما في ذلك عجز في الموازنة، انكماش في النمو، وعجز في الحساب الجاري. بالإضافة إلى ذلك، بلغ الدين العام 100 مليار دولار، وفقدت العملة المحلية أكثر من 90% من قيمتها، مع وقوع 60% من السكان تحت خط الفقر وفق تقارير المنظمات الدولية. وجاءت الحرب لتفاقم هذه الأوضاع. 

انخفض حجم الاقتصاد اللبناني إلى أقل من نصف قيمته السابقة، حيث تقلص إلى ما دون 18 مليار دولار في عام 2023 بعد أن كان قد بلغ ذروته عند 55 مليار دولار في 2018. جاءت الحرب في وقت حرج، إذ كان الاقتصاد اللبناني يحاول النهوض من سلسلة الأزمات التي بدأت منذ 2019، ليجد نفسه أمام تحديات جديدة تزيد من تعقيد عملية التعافي.

أزمة النزوح وتراجع النشاط السياحي والاقتصادي في البلاد

ازدادت أوضاع النازحين داخل لبنان سوءًا مع تصاعد الحرب، حيث أجبر أكثر من مليون لبناني – أي ما يعادل 20% من السكان – على الفرار من المناطق الجنوبية نحو بيروت ومناطق أخرى، مما زاد من الضغط على الخدمات العامة والبنية التحتية في هذه المناطق. وقد تركت الحرب اللبنانية مع العدو الإسرائيلي تأثيرات سلبية عميقة على قطاع السياحة خلال صيف 2024، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية المحلية إلى جانب التحديات الأمنية والاجتماعية. 

بحسب تقرير حديث صادر عن "بنك عوده"، شهد مطار بيروت انخفاضًا في عدد المسافرين القادمين بنسبة 5.3% وتراجع الصادرات عبره بنسبة 9.3% خلال الفترة المذكورة. كما انخفض النشاط السياحي بشكل عام خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2024، مع تقلص عدد السياح الوافدين بنسبة 14.5%. 

وأشار البنك الدولي إلى أن الحرب أدت إلى تراجع الإيرادات السياحية وتدفقات الاستثمارات الأجنبية، مما أضعف المكاسب الاقتصادية المحدودة التي تحققت في وقت سابق من العام. كما انخفضت الحجوزات الفندقية بنسبة تتراوح بين 20% و30%، مما أثر بشكل مباشر على قطاعي الترفيه والمطاعم، بالإضافة إلى إلغاء أو تقليص العديد من المهرجانات والفعاليات السياحية. 

وفيما يتعلق بتقديرات الانكماش الاقتصادي، ذكر تقرير البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية كما ذكرت الإسكوا ايضاً أن الاقتصاد اللبناني قد انكمش بنسبة 1%. ومع ذلك، يرى بعض الخبراء أن الانكماش قد يتراوح بين 12% و25%، اعتمادًا على مدى طول أمد الحرب وحجم الأضرار التي ستلحق بالبنى التحتية. 

كما أسفرت الهجمات عن تدمير 3.5 مليون متر مربع من الأراضي الزراعية باستخدام الفوسفور، ما شكّل خسارة كبيرة للقطاع الزراعي. 

أضرار وخسائر الحرب

بحسب تقرير صادر عن BMI FitchSolution Company، بلغت الخسائر المادية المباشرة للحرب في لبنان نحو 5 مليارات دولار، أي ما يعادل أكثر من 15% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية العام. هذه الخسائر الكبيرة تسببت في اضطراب النشاط الاقتصادي، إلى جانب تأثيرات مباشرة على سوق العمل، حيث فقد أكثر من 30% من القوى العاملة وظائفها أو مصادر دخلها. وقدّرت التقارير الصادرة عن صندوق النقد الدولي، الإسكوا، والبنك الدولي أن الخسائر الناتجة عن الحرب تراوحت بين 2 و10 مليارات دولار، قبل احتساب تداعيات أزمة النزوح المستمرة. 

وعلى صعيد التضخم، أدى الوضع المتدهور إلى ارتفاع معدلات التضخم من 37.3% في الربع الثالث من 2024 إلى 47% في الربع الأخير من العام، مما يعكس تفاقم الأزمة المعيشية وارتفاع أسعار السلع والخدمات. 

ورغم عدم وجود أرقام دقيقة للخسائر الإجمالية بسبب استمرار الحرب والاعتداءات الإسرائيلية الوحشية، تشير تقديرات بعض المحللين إلى أن الخسائر قد تتجاوز 10 مليارات دولار. وتظل هذه التقديرات عرضة للتغيير مع تطور الأوضاع على الأرض واستمرار الاعتداءات، مما يجعل من الصعب تقييم حجم الضرر بدقة في المرحلة الراهنة.

 تقديرات تكلفة الحرب للسنوات القادمة 

وفقًا لدراسة حديثة أجراها معهد كيل، تتحمل الدولة التي تتأثر مباشرة بالحرب العبء الأكبر من التكاليف. تشمل هذه الأعباء تدمير المباني، الآلات، والبنية التحتية، بالإضافة إلى تباطؤ النمو الاقتصادي الذي قد يستمر لعدة سنوات بعد انتهاء النزاع. 

أوضح الباحث جوناثان فيدرلي، مؤلف الدراسة، أن التقديرات التقليدية للحروب السابقة لا تأخذ بعين الاعتبار الاختلافات في مدة الحرب وشدتها، مما يجعل السيناريوهات الحالية أكثر أو أقل حدة بناءً على هذه العوامل. كما أشار إلى أن "الآثار المتسربة" للحرب على الدول المجاورة تعتمد على حجم العلاقات التجارية والقرب الجغرافي من الدولة المتأثرة. نتيجة لذلك، تعاني هذه الدول من ارتفاع معدلات التضخم وتباطؤ نمو الناتج المحلي بسبب تعطّل التجارة وانكماش الاقتصاد. 

الدراسة التي تغطي الفترة من 1870 إلى 2022 تعتمد على محاكاة تقدّر الآثار الاقتصادية العامة للحروب الكبيرة. وقد طُورت "حاسبة تكلفة الحرب" لتقديم سيناريوهات حربية تاريخية وافتراضية، بناءً على آثار متوسطة لتلك الحروب. ومع ذلك، يشير الباحثون إلى أن هذه التقديرات تقريبية وليست دقيقة تمامًا، نظراً لاختلاف العوامل المحيطة بكل نزاع. توضح هذه الحسابات كيف يمكن للحرب أن تسبب اضطرابًا مؤقتًا في بعض الفترات يعقبه تباطؤ طويل الأمد، مما يؤكد تعقيد التأثيرات الاقتصادية والتفاوت في النتائج اعتمادًا على عوامل مثل مدة الحرب، شدتها، وتفاعلها مع الاقتصادات المجاورة.

وفقًا للبيانات التي استندت إليها الدراسة، يوفر الجدول 1 والرسم البياني المرفق تفاصيل عن: 

1. التغير في المخزون الرأسمالي (بمليارات الدولارات الثابتة لعام 2023). 

2. انحراف التضخم عن اتجاهه الطبيعي بالنقاط المئوية. 

3. خسائر الناتج المحلي الإجمالي المطلق (بالدولار). 

4. انحراف الناتج المحلي النسبي بالنقاط المئوية على مدى السنوات الخمس التالية لبداية الحرب.

مثال على أحد السيناريوهات الافتراضية:   

 في عام 2025، من المتوقع أن يكون الناتج المحلي أعلى بنسبة 15.46 نقطة مئوية مما كان سيكون عليه لولا الحرب. هذا لا يعني بالضرورة أن الاقتصاد ينمو أو يزدهر. بل يشير إلى أن الإنفاق المرتبط بالحرب (مثل جهود الإغاثة، التعويضات، أو إعادة الإعمار الجزئي) قد يرفع الناتج المحلي مؤقتًا. يمكن أن تكون هذه الزيادة ايضاً ناجمة عن تدفق المساعدات أو تسارع في الأنشطة الاقتصادية قصيرة الأمد مثل إعادة بناء البنى التحتية المتضررة أو استثمارات حكومية لمواجهة الأزمة. 

- بحلول عام 2026، من المتوقع أن يكون الناتج المحلي أقل بنسبة 21.59% مقارنة بما كان يمكن تحقيقه بدون الحرب. 

جدول 1: تقديرات بعض المؤشرات الاقتصادية للسنوات القادمة في لبنان بمليارات الدولارات الثابتة لعام  2023

المؤشر

2023

2024

2025

2026

2027

المجموع

التغير في مخزون رأس  المال(Capital Stock) / مليارات الدولارات

-3.3

-12

32.8-

-18.6

-20.9

 

-87.6

انحراف التضخم %  ( Inflation deviation) 

5.52

16.64

15.46

12.72

7.62

-

الخسارة في الناتج المحلي الإجمالي المطلق/ (Absolute GDP) مليارات الدولارات

-3.1

-6.6

-7.7

-9.5

-13.6

 

31-

الناتج المحلي الإجمالي النسبي (Relative GDP) %

-7.11

-14.92

-17.45

-21.59

-31.02

-

 

 

 

 

المصدر: معهد كيل 

التعافي والنظرة المستقبلة 

الأحداث الأخيرة التي مرّ بها لبنان تركت آثارًا عميقة على قطاع السياحة، وستؤدي إلى تداعيات اقتصادية واجتماعية واسعة. إن التعافي من هذه الأزمة يتطلب تنسيقًا مشتركًا بين الحكومة، القطاع الخاص، والمجتمع المدني لتحقيق الاستقرار وإعادة إطلاق عجلة التنمية المستدامة. ومع ذلك، تشير العديد من التقارير إلى أن التعافي هذه المرة لن يكون سريعًا أو فعالًا كما كان بعد حرب تموز 2006. 

في عام 2006، كان النظام المصرفي اللبناني يتمتع بصلابة، والليرة اللبنانية كانت مستقرة، كما كانت دول الخليج مستعدة لتقديم الدعم المالي وفتح خطوط ائتمان. لكن في ظل الظروف الراهنة، يعاني لبنان من أزمة مالية خانقة، حيث فقد مصرفه المركزي دوره الفاعل، وتواجه البلاد فراغًا رئاسيًا وحكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات، ما يجعل عملية جذب الاستثمارات الخارجية والتمويل الدولي أكثر تعقيدًا. 

التحديات أمام عملية التعافي 

من المتوقع أن تكون تكلفة إعادة الإعمار والتعافي في المرحلة الحالية أعلى مما كانت عليه في 2006، إذ بلغت خسائر حرب تموز آنذاك 13 مليار دولار، بينما يُرجّح أن تتجاوز الخسائر الحالية هذا الرقم نظرًا لتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. 

السيناريو الإيجابي لتعافي لبنان 

ورغم هذه التحديات، فإن كل أزمة قد تحمل في طياتها فرصة لإجراء تحسينات هيكلية طويلة الأمد إذا أُديرت مرحلة التعافي بكفاءة. يتمثل السيناريو الإيجابي في إنهاء الحرب قريبًا وفتح المجال أمام إصلاحات حقيقية. تشمل الخطوات الرئيسية: 

1. انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة كفوءة: ضرورة وجود قيادة سياسية فاعلة لإدارة عملية التعافي. 

2. إطلاق عجلة الإصلاحات الاقتصادية: يتضمن ذلك مكافحة الفساد، تحسين إدارة المالية العامة، وتعزيز الشفافية. 

3. التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي: هذا الاتفاق سيوفر إطارًا للإصلاح والدعم المالي الدولي. 

4. الحصول على دعم دولي: عبر مؤتمر للمانحين أو فتح خطوط تمويل من دول صديقة ومنظمات دولية. 

 

إذا توافرت هذه العوامل، قد يتمكن لبنان من استعادة ثقة المستثمرين والمجتمع الدولي، مما سيعزز فرص الانتعاش الاقتصادي على المدى الطويل. لكن بغياب الاستقرار السياسي والإصلاحات الضرورية، ستبقى عملية التعافي بطيئة وشاقة، مما يزيد من معاناة اللبنانيين في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة.

تم نسخ الرابط