
المصدر: جريدة "الأخبار"
منذ الولادة المشؤومة لـ«إسرائيل» عام 1948، تقف الأخيرة بين معضلتين، الأولى تتلخص بالسعي إلى تثبيت أقدامها على أرض فلسطين المغتصبة وفك عقدة عدم القدرة على الاستمرار أو البقاء على قيد الحياة، واستبعاد نظرية الزوال. والثانية تتمحور حول كيفية الخروج من عزلتها والدخول في نسيج شعوب المنطقة.
حُلّت المعضلة الأولى عام 1967، عندما باغتت إسرائيل العرب بحرب حسمتها قبل أن تبدأ، حسب الطيار الإسرائيلي الذي وقع في الأسر لدى الجيش السوري، عندما قال أثناء التحقيق معه على مسمع وزير الدفاع آنذاك، حافظ الأسد، وكبار الضباط الذين كانوا يستمعون للتحقيق من الغرفة الملاصقة، رداً على سؤال المحقق عن رأيه في الحرب القائمة، فرد الأسير الطيار بسؤال: «هل هناك حرب؟ لقد انتهت من ساعات الصباح الأولى، لقد قصفنا طائراتكم قبل أن تقلع وقضي الأمر».
بالتالي، منحت تلك الحرب إسرائيل التفوق على الجيوش العربية مجتمعة، وأخرجت من عقول وشجون مستوطنيها فكرة عدم البقاء.
ومع توقيع اتفاقية السلام الشهيرة بين إسرائيل وقطب العالم العربي، جمهورية مصر العربية، شعر الإسرائيليون بأنهم فتحوا طريق الدخول إلى النسيج العربي، وبالتالي وضعت المعضلة الثانية على سكة الحل، وقطعت شوطاً مهماً مع اتفاقيتي «أوسلو» و«وادي عربة»، عامي 1993 و1994 على التوالي. واستمرت إسرائيل في حصد جوائز التطبيع حتى عام 2020 مع اتفاقيات «أبراهام».
واليوم، وعلى طريق التطبيع، تسير قاطرة من الدول العربية الإسلامية إذا ما نجحت الولايات المتحدة في عقد قران التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل.
عليه، وبعد التطورات أو الإنجازات الجيوسياسية التي حققتها إسرائيل في الحرب الأخيرة، سواء في فلسطين أو لبنان وانتهاء بسوريا، لم يعد الإسرائيلي يفكّر في البقاء أو الاستقرار في فلسطين المحتلة وحسب، ولا بالدخول في النسيج العربي، بل بات يطمح لأن تلعب إسرائيل دور الدولة الإقليمية الفاعلة، وأن تنتقل من قوة عسكرية إلى قيادة إستراتيجية!
في هذا المجال، يقول الباحث الإسرائيلي في «مركز القدس للشؤون العامة والسياسة» عوديد عيلام: «أبرزت الإنجازات العسكرية الأخيرة لإسرائيل قدراتها غير المسبوقة في المنطقة، إذ أدّى تدمير البنى التحتية لحزب الله، وشلّ الهياكل القيادية لحماس في غزة، والرد المحسوب على الاستفزازات الإيرانية، والتي بلغت ذروتها في نجاحات عملياتية كبيرة، إلى تأكيد تفوّقها التكتيكي الساحق».
ثم يستدرك: «مع ذلك، لا يزال هناك تهديد وجودي لم تتم معالجته، وهو البرنامج النووي الإيراني، إذ لم يعد تأخيره أو ردعه كافياً، بل يجب على إسرائيل أن تقود ائتلافاً ديبلوماسياً، أو عسكرياً، لتفكيك القدرة النووية الإيرانية، سواء عبر التوافق، أو بالقوة، أو عبر مزيج من الاثنين. إن الغموض في طموحات إيران، والتردد في موقف المجتمع الدولي، يجعلان هذا الخط الأحمر أمراً لا يمكن تجاوُزه».
في الأثناء، تظل تركيا في سعيها إلى بسط نفوذها عبر مزيج من الحنين العثماني والاقتصاد الحديث، لتُعيد تموضُعها كجسر بين الشرق والغرب.
وإيران، ورغم إخفاقاتها، فإنها لا تزال تلعب دوراً محورياً في المنطقة ولديها الكثير من الأوراق القوية والمؤثرة. وما المفاوضات الجارية بينها وبين الولايات المتحدة في مسقط سوى لمناقشة تلك الأوراق.
هذا في الوقت الذي يعمّق فيه اللاعبون العالميون، مثل الصين وروسيا، وجودهم في الشرق الأوسط بصمت.
فمبادرة «الحزام والطريق» الصينية ترتبط بهدوء الموانئ والطرقات والشبكات الرقمية، من الخليج إلى بلاد الشام، بينما روسيا، التي تلقّت ضربة بعد انهيار نظام الأسد، تعيد الآن بناء نفوذها وعلاقاتها مع الحكومة الجديدة في سوريا. ويرى عيلام، انطلاقاً من هذا المشهد المتنازَع عليه، بروز إسرائيل «كدولة مستقرة، مبتكرة، متفوقة عسكرياً، وتزداد كفاءةً على الصعيد الديبلوماسي. فإذاً، لماذا نستمر (الإسرائيليون) في رؤية أنفسنا كأطراف هامشية، وليس في وسط المركز؟».
هذا التفاؤل والطموح لدى عيلام، لا نجده لدى المحامي اليهودي الأميركي والضابط السابق والكاتب في «يديعوت أحرنوت»، ميخائيل ميلشتاين، الذي لا يرى ثمة جدوى من حروب بلا إستراتيجيا كالتي تخوضها إسرائيل منذ سنة ونصف. يقول: «يستند عدم وجود إستراتيجيا إسرائيلية إلى العنصر الجديد/القديم، وهو الاستيلاء على الأراضي، في غزة وسوريا، وبدرجة أقلّ لبنان، تجسّدَ المفهوم الجديد الذي يدّعي أنه استنتاج من تجربة علمية جدية: «لا يفهم العرب إلّا عندما نأخذ منهم الأرض»، وهذا كله مع تجاهُل دروس التاريخ، مثل حرب 1967 التي أثبتت أن احتلال الأراضي لم يؤدِّ إلى التراجع”، في الخلفية، يتعزز الشك في أن الدوافع الأيديولوجية/الدينية المتعلقة بوحدة الأرض تختبئ وراء مبررات أمنية/إستراتيجية، ويتضح بشكل جلي في تصريحات قادة الصهيونية الدينية، وعلى رأسهم الوزير سموتريتش الذي أوضح، فعلاً، أن هدفه هو تغيير الـ DNA للضفة الغربية، وأنه مستعد للموافقة الأميركية على ضمّ الأراضي في المنطقة».
بمعنى أوضح، ما دام هناك احتلال هناك مقاومة، سواء في فلسطين أو في غيرها من الأقطار العربية. وبطبيعة الحال، مع النسخة الأسوأ من حكومات إسرائيل، اللاهوتية-التلمودية، والطامحة إلى إقامة دولة يهودية خالصة على كامل خريطة فلسطين، وإلى دولة إسرائيل الكبرى من المحيط إلى الخليج، سيكون احتلال أراضي العرب وقتلهم وتشريدهم من أبرز سماتها.
عليه، وبعيداً من كل الأيديولوجيات السماوية والوضعية، مصير الكيان ليس في وضع مستقر لناحية ضمان بقائه، لا سيما بعدما أحالت تلك الحكومة نظام الكيان إلى نظام سلطوي يفتقر إلى نظام الحوكمة، وهذا ما حذر منه مؤسسه، ديفيد بن غوريون، الذي أكد دائماً أن إسرائيل قد تسقط إذا ما تَحكّم فيها اليمين المتطرف وأفقدها ميزة نظامها «الديموقراطي المحوكم».
كذلك، موضوع أن تكون إسرائيل «دولة فاعلة في الإقليم» ليست مضمونة، رغم كل الإنجازات الإستراتيجية التي حققتها، خصوصاً أن إسرائيل لم تتمكّن من القضاء على جذوة المقاومة.